سامحينا
إن تركناكِ تموتينَ وحيدهْ
وتسلّلنا إلى خارجِ الغرفةِ نبكي كجنودٍ هاربينْ
سامحينا
إن رأينا دمكِ الورديَّ ينسابُ كأنهارِ العقيقْ
وتفرّجنا على فعلِ الزِنا
وبقينا ساكتينْ
آهِ .. كم كُنّا قبيحينَ، وكُنّا جُبناءْ
عندما بعناكِ، يا بيروتُ، في سوقِ الإماءْ
وحجزنا الشققَ الفخمةَ في حيِّ (الإليزيه) وفي (مايفير) لندنْ
وغسلنا الحزنَ بالخمرةِ، والجنسِ، وقاعاتِ القِمارْ
وتذكّرنا - على مائدةِ الروليتِ، أخبارَ الديارْ
وافتقدنا زمنَ الدِفْلى بلُبنانْ
وعصرَ الجُلَّنارْ
وبكينا مثلما تبكي النساءْ
آهِ .. يا بيروتُ
يا صاحبةَ القلبِ الذهبْ
سامحينا
إن جعلناكِ وقوداً وحَطبْ
للخلافاتِ التي تنهشُ من لحمِ العربْ
منذُ أن كانَ العربْ
طمئنيني عنكِ
يا صاحبةَ الوجهِ الحزينْ
كيفَ حالُ البحرِ؟
هل هم قتلوهُ برصاصِ القنصِ مثلَ الآخرينْ؟
كيفَ حالُ الحبِّ؟
هل أصبحَ أيضاً لاجئاً
بين ألوفِ اللاجئينْ؟
كيفَ حالُ الشعرِ؟
هل بعدكِ - يا بيروتُ - من شعرٍ يُغنّى؟
ذبَحَتنا هذهِ الحربُ التي من غيرِ معنى
أفرغتْنا من معانينا تماماً
بعثرتْنا في أقاصي الأرضْ
منبوذينَ
مسحوقينَ
مَرضى
مُتعبينْ
جعلتْ منّا - خلافاً للنبوءاتِ
يهوداً تائهينْ
هذهِ المرّةُ .. لم يغدرْ بنا
جيشُ إسرائيلْ
لكنّا انتحرنا
إصفحي، سيّدتي بيروتُ، عنّا
نحنُ لم نهجركِ مختارينَ .. لكنّا قرِفنا
من مراحيضِ السّياسه
وملَلنا
من ملوكِ السّيركِ .. والسيركِ .. وغشِّ اللاعبينْ
وكفرنا
بالدكاكينِ التي تملأُ أرجاءَ المدينهْ
وتبيعُ الناسَ حقداً وضغينهْ
وبطاطينَ .. وسجاداً .. وبنزيناً مهربْ
آهِ يا سيّدتي كم نتعذّبْ
عندما نقرأُ أنَّ الشّمس في بيروتَ، صارتْ
كُرةً في أرجلِ المرتزقينْ
ما الذي نكتبُ، يا سيّدتي؟
نحنُ محكومونَ بالموتِ، إذا نحنُ صَدَقنا
ثمّ محكومونَ بالموتِ، إذا نحنُ كذبنا
ماذا نكتبُ يا سيّدتي؟
نحنُ لا نملكُ أن نحتجَّ
أو نصرخَ
أو نبصقَ
أو نكشفَ عن خيبتنا
أو نتمنّى
أخرستنا هذهِ الحربُ التي من غيرِ معنى
طلبوا منّا بأن ندخلَ في مدرسةِ القتلِ
ولكنّا رفضنا
طلبوا أن نشطرَ الربَّ لنصفينِ
ولكنّا اختجلنا
إننا نؤمنُ باللهِ
طلبوا منّا بأن نشهدَ ضدَّ الحبِّ
لكنْ ما شهدنا
طلبوا منّا .. بأن نشتمَ بيروتَ التي قمحاً .. وحبّاً
وحناناً .. أطعمَتْنا
طلبوا
أن نقطعَ الثديَ الذي من خيرهِ، نحنُ رضِعنا
فاعتذرنا
ووقفنا ضدَّ كلِّ القاتلينْ
وبقينا مع لُبنانَ سهولاً .. وجبالا
وبقينا مع لُبنانَ جنوباً .. وشمالا
وبقينا مع لُبنانَ صليباً .. وهلالا
وبقينا مع لُبنانَ الينابيعِ
ولُبنانَ العناقيدِ
ولُبنان الصبابهْ
وبقينا مع لُبنانَ الذي علّمنا الشعرَ
وأهدانا الكتابهْ
آهِ يا سيّدتي بيروتْ
لو جاءَ السّلامْ
ورجعنا، كالعصافيرِ التي ماتتْ من الغُربةِ والبردِ
لكي نبحثَ عن أعشاشنا بينَ الحُطامْ
ولكي نبحثَ عن خمسينَ ألفاً
قُتلوا من غيرِ معنى
ولكي نبحثَ عن أهلٍ وأحبابٍ لنا
ذهبوا من غيرِ معنى
وبيوتٍ .. وحقولٍ .. وأراجيحَ .. وأطفالٍ
وألعابٍ .. وأقلامٍ .. وكُرّاساتِ رسمٍ
أُحرقتْ من غيرِ معنى
آهِ ... يا سيّدتي بيروتْ
لو جاءَ السلامْ
ورجعنا
كطيورِ البحرِ، مذبوحوينَ شوقاً وحنينا
وبنا شوقٌ إلى (منقوشةِ الزّعترِ) .. واللّيلْ
ومَن كانوا يبيعونَ عقودَ الياسمينْ
فمنَ الجائزِ، يا بيروتُ، أن لا تعرفينا
قد تغيّرتِ كثيرا
وتغيّرنا كثيرا
وكبرنا نحنُ - في عامينِ - آلافَ السنينْ
إحتملنا نفيَنا عشرينَ شهرا
وشربنا دمعنا عشرينَ شهرا
وبحثنا في زوايا الأرضِ عن عشقٍ جديدٍ
غيرَ أنّا ما عشقنا
وشربنا الخمرَ من كلِّ الدوالي
غيرَ أنّا ما سكِرنا
وبحثنا عن بديلٍ لكِ
يا أعظمَ بيروتَ
ويا أطيبَ بيروتَ
ويا أطهرَ بيروتَ
ولكنْ ما وجدنا
ورجعنا
نلثمُ الأرضَ التي أحجارُها تكتبُ شعرا
والتي أشجارُها تكتبُ شعرا
والتي حيطانُها تكتبُ شعرا
وأخذناكِ إلى الصّدرِ
حقولاً .. وعصافيرَ .. وكورنيشاً .. وبحرا
وصرخنا كالمجانينِ على سطح السّفينهْ
أنتِ بيروتْ
ولا بيروتُ أخرى